كتاب وآراءمجتمع

مفارقة تفضح منسوب العدالة المجالية.. حين تحركت الحكومة في فاس، وصمتت في أسفي

ذ.شكيب الخاي

الرئيس الوطني للمرصد المغربي لحقوق الإنسان

عندما انهار مبنيان في فاس، تحركت الحكومة بكامل أذرعها، وحين غرقت أسفي اكتفت ببلاغ، وليس أي بلاغ، بل بلاغ يتيم مقتضب خجول، صادر عن النيابة العامة، يعلن فتح تحقيق من طرف الشرطة القضائية، دون أن يسبقه أو يواكبه أي حضور سياسي أو حكومي يرقى إلى حجم الفاجعة.
في فاس، رأينا الحكومة في الميدان، وفي أسفي، رأينا الحكومة في السطر الأخير من بلاغ.
لا أحد ينكر أن فتح تحقيق قضائي بأسفي خطوة مطلوبة، لكنها تظل حدا أدنى لا يرقى إلى مستوى الكارثة. فالفيضانات التي ضربت المدينة لم تكن حادثا معزولا، ولا فعلا إجراميا فرديا، بل نتيجة تراكمات ثقيلة من سوء التدبير وغياب الرؤية، وتعطيل المحاسبة، وإفراغ مفهوم التنمية من محتواه.
في فاس، بعد ساعات فقط من الانهيار، كان هناك استنفار ميداني شامل، تطويق أمني، إجلاء للسكان، فتح تحقيق فوري، حديث صريح عن خروقات البناء والمسؤوليات، وضغط سياسي وإعلامي لمحاسبة المتورطين..
أما في أسفي، حيث جرفت المياه البشر والحجر، وكشفت عجز البنية التحتية، وفضحت هشاشة “برامج التأهيل”، فقد كان المشهد مختلفا؛ لا رئيس حكومة، لا وزراء، لا زيارات ميدانية، لا لجان مركزية، لا التزامات سياسية، فقط بلاغ يتيم، وكأن الحكومة تقول لأسفي: نعم نسمعكم، لكن لا نراكم!!
الفرق الجوهري هنا ليس في طبيعة الكارثة، بل في طريقة تصنيفها سياسيا؛ فانهيار المباني يعد حادثا يستدعي تدخل الحكومة، أما غرق مدينة، فيختزل في “أمطار غزيرة” و“ظروف مناخية”، وهنا مكمن الخطر، حين تتحول الكوارث البنيوية إلى قدر، والمحاسبة إلى استثناء.
إن مأساة أسفي لا تحتمل الاختزال في مسار قضائي معزول، مهما كانت أهميته، بل إنها تتطلب تطويقا استعجاليا للأضرار، تدخلا حكوميا واضحا، مساءلة للسياسات العمومية، إعادة نظر شاملة في اختيارات التهيئة والتنمية..
ومن هذا المنطلق، فإن المسؤولية اليوم لا تقع على الحكومة وحدها، بل تمتد إلى كل من يفترض فيهم تمثيل المدينة والدفاع عن مصالحها.
ومن هذا المنطلق، بات مطلوبا وبإلحاح من منتخبي أسفي بمختلف المجالس الجماعية، الإقليمية والجهوية، وبرلمانييها بغرفتي البرلمان، وكذا التنظيمات الحقوقية، والجمعوية، والنقابية، وكافة شرفاء حاضرة المحيط، التحرك العاجل والموحد من أجل الضغط على الحكومة لتحقيق العدالة المجالية، انتزاع تعامل يليق بحجم الكارثة، فرض حضور أسفي في أجندة أخنوش ومن معه، المطالبة بتنمية حقيقية لا ترقيعية، لكون أسفي ليست مدينة هامشية، بل حاضرة بتاريخ عريق، وبمؤهلات اقتصادية وبحرية وصناعية هائلة، وبمساهمة مركزية في الاقتصاد الوطني، لكنها بالمقابل تعيش على هامش القرار.
إن استمرار الصمت هو تواطؤ غير معلن، والقبول بالبلاغات اليتيمة تكريس للهامشية، لأن أسفي اليوم لا تطلب شفقة، بل تطالب بحقها الكامل في الدولة، في الحماية، وفي التنمية التي تليق بتاريخها ومكانتها، لأن العدالة المجالية ليست شعارا، بل امتحانا حقيقيا لصدق الحكومة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى