من قلب الزنزانة… حين يتحول السجن إلى مدرسة للصبر والانتصار الإنساني!!
رغم قضائه عقوبة السجن المؤبد، وهي العقوبة التي يعتبرها عدد من الحقوقيين ورجال القانون قاسية ومجانية وظالمة، يواصل المعتقل صلاح الدين الخاي لفت انتباه الرأي العام الوطني، ليس فقط بسبب قضيته التي استأثرت باهتمام واسع طيلة أزيد من عشر سنوات، بل بسبب قدرته الاستثنائية على تحويل المحنة إلى فعل مقاومة هادئة، والظلم إلى معنى، والسجن إلى فضاء لإعادة بناء الذات.
في تدوينة مؤثرة تقاطعت حولها ردود فعل إنسانية وحقوقية واسعة، قدم صلاح الدين الخاي شهادة نادرة في الصدق والعمق، تختصر جوهر الصبر والإيمان والانتصار للذات خلف القضبان. ليست مجرد كلمات، بل نص إنساني يكتب بمداد المعاناة، ويقرأ بضمير حي.
يستهل الخاي شهادته بسؤال بسيط طرحته عليه محاورة: ما أهم إنجازاتك منذ دخولك السجن؟
سؤال بدا عاديا، لكن جوابه جاء صادما في عمقه: «”…بقائي على قيد الحياة، وتحمل ضغوط الأيام الأولى للمحنة، وتجاهل طعنات الغدر وعدم الرد عليها بمثلها، والصبر على أحكام وقرارات ظالمة خارج القانون، وعدم لومي من أتقنوا قانون الصمت مع أمنياتهم أن يتدحرج جسدي في الفراغ، وتآلفي مع مكان لا يشبهني ولا أشبهه، وإيماني الذي لم يهتز يوما بالله سبحانه وتعالى، وبالقضاء خيره وشره وبعدالة قضيتي… ربما تكون هذه الأمور سيدتي وغيرها… أهم إنجازاتي»
بهذا الجواب، يعيد الخاي تعريف مفهوم الإنجاز، خارج منطق الشهادات والأرقام، ليضعه في قدرة الإنسان على النجاة النفسية، وعلى عدم التحول إلى نسخة مشوهة من ذاته تحت وطأة القهر.
لا يخفي المعتقل إحساسه بالضياع والانكسار، فالسجن -كما يقول- من أقسى التجارب التي قد يعيشها الإنسان، خاصة حين يكون مقتنعا ببراءته ومظلوميته. هنا لا يعود الألم جسديا فقط، بل يتحول إلى امتحان وجودي؛ إما السقوط في اليأس، أو إعادة بناء الذات من الصفر.
وقد اختار صلاح الدين الخاي الطريق الأصعب: «واستحضرت الخيارين الذين وضعتهما أمامي منذ البداية: إما الدخول في حالة يأس واكتئاب والتدخين بشراهة والنوم والخمول وعدم الاهتمام بأي شيء… أو إعادة البناء والاندماج في كل ما هو إيجابي “حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا”.».
في مفارقة لافتة، تتزامن هذه الشهادة الإنسانية مع حدث علمي بالغ الدلالة؛ حصوله على شهادة الإجازة في أصول الدين -دراسات قرآنية وحديثية- باعتبارها رابع شهادة جامعية في مساره، وهو رهن الاعتقال.
إنجاز لا يمكن فصله عن إرادة صلبة، وعن قناعة راسخة بأن الحرية قد تسلب من الجسد، لكنها لا تسلب من العقل.
وبحس إنساني عال، يستحضر صلاح الدين الخاي تضحيات أسرته، بأسمائهم، بوجوههم، وبأدوارهم اليومية في تثبيت الأمل داخله. كلمات الامتنان هنا ليست مجاملة، بل اعتراف بأن الصمود فعل جماعي، وأن العائلة كانت حائط الصد الأخير في لحظات الانكسار الكبرى.
كما لم ينس أصدقاءه، ومحاميه، وكل من يسانده، بل وحتى أطر وموظفي إدارة السجون، وعمادة الكلية والأساتذة المشرفين، في رسالة تحمل وعيا عميقا بأن الإنسان يقاس بقدرته على الاعتراف بالجميل حتى وهو في أقسى الظروف.
قضية صلاح الدين الخاي، التي شغلت الرأي العام الوطني وتناقلتها منابر إعلامية متعددة، لم تعد اليوم مجرد ملف قضائي مثير للجدل، بل تحولت إلى رمز لسؤال العدالة، ومعنى الإنصاف، وحدود السلطة، وقدرة الإنسان على الانتصار الأخلاقي رغم الهزيمة القانونية.
ويختم الخاي تدوينته بجملة تختصر فلسفته في الحياة خلف القضبان: «التفاؤل في قلب الأزمة والغمة من الإيمان».
هي ليست عبارة عابرة، بل بيان إنساني صادر من قلب الزنزانة، موجه إلى مجتمع بأكمله؛ أن الإيمان ليس استسلاما،
وأن الصبر ليس ضعفا،
وأن الأمل… قد يولد حتى في أكثر الأماكن عتمة.
في انتظار انفراج ينصف العدالة، تبقى كلمات صلاح الدين الخاي شهادة حية على أن الإنسان يمكنه، حتى وهو محاصر بالحديد، أن يظل حرا من الداخل.






