القطاع البنكي المغربي بين الربحية العالية والمسؤولية الاجتماعية الغائبة

شهد القطاع البنكي المغربي انتقادات لاذعة من طرف والي بنك المغرب، الأمر الذي يثير تساؤلات حول الأسباب التي دفعت إلى هذا التقريع. وكان عبد اللطيف الجواهري قد أعلن في وقت سابق عن اجتماع مرتقب مع الأبناك لمراجعة سياساتها التمويلية، خاصة فيما يتعلق بدعم المقاولات. لكن هذا الإشكال ليس سوى جانب واحد من سلسلة اختلالات أعمق تطال القطاع البنكي وتزيد من حجم شكاوى العملاء.
ورغم أن الأبناك المغربية تتمتع بمتانة مالية واضحة، إلا أن دورها الاجتماعي لا يرقى إلى مستوى التحديات التنموية والانتظارات المجتمعية. يوضح الخبير الاقتصادي إدريس الفينا أن الوقت قد حان للانتقال من منطق الربحية قصيرة المدى إلى منطق الأثر طويل الأمد، ومن التعامل مع الأفراد باعتبارهم مجرد زبائن إلى رؤيتهم كمواطنين يحتاجون إلى دعم مالي حقيقي. ويأتي ذلك في ظل رهان الدولة على إنعاش الاقتصاد وتعزيز التماسك الاجتماعي، مما يستوجب من الأبناك تجاوز وظيفتها التقليدية كوسيط مالي إلى دور أكثر فاعلية في تمويل الاستثمار، دعم المقاولات، خلق فرص الشغل، وتعزيز الإدماج المالي.
وتشير الدراسات الحديثة إلى أن معدل العائد على الأموال الذاتية لدى الأبناك المغربية يعادل تقريبًا ضعف ما تحققه نظيراتها في فرنسا وإسبانيا وكندا. ورغم أن هذه الربحية العالية تبدو في ظاهرها مؤشرًا على الاستقرار المالي، إلا أنها تعكس في عمقها مشاكل تتعلق بعدالة توزيع الثروة وغياب الأثر الاجتماعي. وتعتمد الأبناك بشكل كبير على رسوم الخدمات المرتفعة وهوامش الفائدة العالية، إضافة إلى سياسات إقراض متحفظة لا تأخذ بعين الاعتبار حاجيات الفئات الهشة والمقاولات الناشئة. كما أن نسبة كبيرة من هذه الأرباح لا يتم إعادة استثمارها في مشاريع اقتصادية أو اجتماعية، ما يعزز الشعور بأن الأبناك تستفيد من السوق أكثر مما تخدمه.
ومن خلال تحليل بنية التشغيل داخل القطاع، يتبين أن معدل التشغيل مقارنة بالقيمة المضافة في المغرب يفوق نظيره في البلدان المشابهة بمرتين، مما يعكس اعتمادًا كبيرًا على العنصر البشري. لكن المفارقة تكمن في أن هذا الاستخدام المكثف لا يؤدي بالضرورة إلى تحسين ظروف العمل أو خلق المزيد من الفرص الوظيفية. فالكثير من الشباب الذين يلتحقون بالقطاع البنكي يغادرونه بعد فترة قصيرة لا تتجاوز ثلاث سنوات بسبب الأجور المتدنية، غياب الآفاق المهنية، وضغط العمل الشديد. ويُطلب من الموظفين أداء مهام متعددة كانت تُوزع سابقًا على عدة أفراد، دون أن ينعكس ذلك على رواتبهم أو مسارهم المهني، مما يجعلهم يشعرون بالاستغلال.
وتمتد هذه الاختلالات إلى الأطر المتوسطة، التي تُعد العمود الفقري للقطاع البنكي، حيث تظهر المقارنات الدولية أن أجور هذه الفئة في المغرب أقل بكثير من نظيراتها في دول أخرى رغم ما تتحمله من مسؤوليات كبيرة. وتتفاقم الفجوة بين هذه الأجور وتلك التي يحصل عليها كبار المسؤولين والمديرين التنفيذيين، مما يخلق بيئة غير تحفيزية تفتقر إلى العدالة المهنية. وبدل أن يكون القطاع البنكي فضاءً للعمل المستقر، يتحول إلى بيئة ضاغطة يغيب فيها أي أفق تصاعدي واضح، مما يضعف الشعور بالانتماء المؤسسي ويؤثر سلبًا على الأداء العام.
في ظل هذه المعطيات، يصبح من الضروري إعادة تعريف مفهوم “البنك المواطن”. فلا يكفي أن تنخرط الأبناك في مبادرات اجتماعية رمزية أو تطلق حملات تسويقية تحت شعار المسؤولية الاجتماعية. بل يجب أن يشمل هذا المفهوم إعادة توجيه جزء من الأرباح نحو دعم مشاريع تنموية حقيقية، تطوير أدوات مالية موجهة للفئات المقصية، تحسين بيئة العمل، وفتح المجال أمام الكفاءات الشابة للمساهمة في تطوير القطاع البنكي بشكل أكثر عدالة. كما أن المواطنة البنكية تتطلب التزامًا تنظيميًا شفافًا يخضع للمساءلة، بما في ذلك دمج مؤشرات الأثر الاجتماعي ضمن معايير التقييم البنكي، وربط الامتيازات التنظيمية بمستوى إسهام المؤسسة في تحقيق التنمية المستدامة.
ونظرًا إلى الدور المحوري الذي تلعبه الأبناك في الاقتصاد الوطني، فإن مسؤولية الإصلاح لا تقع على عاتقها وحدها، بل تشمل أيضًا السلطات التنظيمية مثل بنك المغرب، والسلطة التنفيذية، والمؤسسة التشريعية. وبدون تدخل حقيقي وضغط منظم من هذه الجهات، ستظل الأبناك حبيسة منطق الربح المحض، بعيدًا عن الاعتبارات الاجتماعية والتنموية التي تحتاجها البلاد في هذه المرحلة.