حين يمطر الفشل.. أسفي بين شهادة المطر وسقوط المسؤولية السياسية!!

شكيب الخاي
الرئيس الوطني للمرصد المغربي لحقوق الإنسان.
في كل مرة تمطر فيها سماء أسفي، لا يكون الحدث مناخيا عابرا، بل امتحانا سياسيا وأخلاقيا مكشوفا. امتحانا لا يحتاج إلى بلاغات رسمية ولا إلى لجان تفتيش موسمية سرعان ما تطوى تقاريرها في الأدراج. فالمطر ببساطته وحياده، يقوم بالدور الذي عجزت عنه مؤسسات الرقابة والمحاسبة؛ يكشف الحقيقة كاملة، دون رتوش ولا مجاملات. إنه بحق المفتش الأكثر نزاهة ومصداقية في هذا البلد.
قطرات كانت كافية لتفضح واقعا مرا؛ بنية تحتية متهالكة رغم ما رصد لها من ميزانيات بالملايين، طرق تتحول في دقائق إلى مصائد موت، أحياء تحاصرها المياه وتعزل عن العالم، ومواطنون يتركون في مواجهة الخطر. هنا لا نتحدث عن “قوة قاهرة” ولا عن ظاهرة طبيعية استثنائية، بل عن نتيجة منطقية لسنوات طويلة من الإهمال وسوء التدبير وغياب الرؤية الاستباقية.
حين يهطل المطر في أسفي، تسقط معه كل الشعارات البراقة عن “التنمية” و“التأهيل الحضري” و“المدينة الصديقة للمواطن”، وتطفو على السطح أسئلة موجعة لا تجد من يجيب عنها بجرأة ومسؤولية؛ من يتحمل المسؤولية السياسية والمؤسساتية عما وقع؟ أين صرفت الاعتمادات المالية التي خصصت للبنية التحتية؟ ولماذا تتكرر المآسي نفسها كل شتاء دون أن يحاسب أحد؟
ما وقع في أسفي ليس كارثة طبيعية بقدر ما هو كارثة تدبيرية بامتياز، كارثة تكشف خللا عميقا في منطق الحكامة، حيث تنجز المشاريع بمنطق الصفقات لا بمنطق السلامة، وتقص الأشرطة في المناسبات بينما تغيب الصيانة والمراقبة والتتبع. في هذا السياق، يصبح المطر شهادة إدانة لا تقبل الطعن، ودليلا ماديا على فشل السياسات العمومية محليا ووطنيا.
ولو أن ما حدث في أسفي وقع في دول ديمقراطية تحترم شعوبها، لكانت النتائج مختلفة جذريا. هناك لا ينظر إلى مثل هذه المآسي باعتبارها “قضاء وقدرا”، بل باعتبارها مسؤولية سياسية مباشرة، كنا سنرى مجالس منتخبة تقدم استقالتها اعترافا بالفشل، ومسؤولين يحاسبون أمام البرلمانات والقضاء، وربما حكومات تسقط لأن حياة المواطنين ليست رقما هامشيا في معادلة السلطة. أما والحال عندنا، فغالبا ما يطوى الملف بسرعة، وتختزل المأساة في تعويضات رمزية وكلمات تعاطف عابرة.
إن أخطر ما تكشفه فواجع المطر في أسفي ليس فقط هشاشة البنية التحتية، بل هشاشة الإحساس بالمسؤولية. فحين تغيب المحاسبة، يتحول الإهمال إلى قاعدة وتصبح أرواح المواطنين أقل وزنا من كلفة الإصلاح الحقيقي. وحين تؤجل الحقيقة، تتكرر المأساة ويتحول الاستثناء إلى قاعدة موسمية.
رحم الله ضحايا أسفي، وألهم ذويهم الصبر والسلوان. وليكن هذا “المفتش النزيه” الذي لا يكذب ولا يساوم جرس إنذار أخيرا لإيقاظ ضمائر نامت طويلا. فإما أن نختار طريق المحاسبة والكرامة والحق في الحياة الآمنة، وإما أن نظل نعد الضحايا مع كل موسم مطر، ونكتفي بترديد السؤال نفسه: لماذا حدث هذا مرة أخرى؟







