من بغداد إلى الدار البيضاء.. هكذا تشكل وعي صلاح بوسريف الشعري

في دروب الدار البيضاء المكتظة بالحكايات، ولد صلاح بوسريف، ليس فقط كشاعر بل كمتمرد على النمط، قادم من زمن بعيد ليشق طريقه الخاص في دهاليز الكتابة والفكر. لم تكن طفولته تسير وفق القوالب الجاهزة، فقد رفضته المدرسة الرسمية، لكنه وجد في التعليم الحر بوابة أخرى، وفي العراق نافذة أوسع حيث خطّ أولى خطواته في دروب المعرفة، ليعود لاحقًا إلى المغرب، حاملًا في جعبته شغفًا لا يهدأ وأسئلة لا تنتهي.
بين بغداد والدار البيضاء، تشكل وعيه النقدي، فانغمس في عوالم الشعر والتاريخ، مؤسسًا لحداثة في الكتابة تقطع مع المألوف، بل وتجرؤ على تحدي أفق الانتظار النقدي. في اتحاد كتاب المغرب، وفي “بيت الشعر”، وفي مجلات الشعراء، كان لصوته حضور، لا يهادن ولا يتماهى مع السائد، بل يبحث عن هوية شعرية تليق بتجربة تُراكم الاختلاف، وترفض التسطيح.
يؤمن بوسريف أن الشعر ليس ترفًا لغويًا، بل مغامرة وجودية، حفر في طبقات المعنى، وتجريب لا يعرف الاستقرار. يرى في الشعر والفلسفة توأمًا لا ينفصل، حيث تشتبك الفكرة مع الإيقاع، ويتحول النص إلى كائن حي ينمو ويقاوم القوالب الجاهزة.
لم يكن بوسريف مجرد كاتب يراكم إصدارات، بل كان صانعًا لرؤية شعرية جديدة. منذ “فاكهة الليل” إلى “كوميديا العدم”، ظل وفيًا لقلقه الإبداعي، لا يلتفت إلى ما كتب، بل يعبر نحو ما لم يُكتب بعد، وكأن الشعر عنده معركة مفتوحة لا تنتهي، بل تتجدد باستمرار.
وفي زمن تتآكله الحروب والكوارث، يطرح بوسريف سؤال الجدوى، لكنه لا يسقط في فخ العدمية، بل يرى أن غياب الشعر هو غياب للخيال، وهو اختناق للحياة نفسها. الشعر عنده ليس رفاهية، بل ضرورة، مثل الهواء والماء، مثل نار تشتعل في الظلام لتكشف لنا أبعادًا لم نرها من قبل.
في مسيرته، لم يكن الشعر كافيًا وحده، بل كان امتدادًا لفنون أخرى، مثلما كانت الفنون امتدادًا له. يرى بوسريف أن الشعر لم يندمج مع الفنون الأخرى، بل كانت هي التي استلهمت جوهره، منذ أن نقش الإنسان كلماته الأولى في الكهوف، ومنذ أن خطّ “جلجامش” أولى الملاحم.
هكذا، يتجلى بوسريف في المشهد الثقافي، ليس فقط كشاعر، بل كمفكر لا يكلّ عن طرح الأسئلة، عن زحزحة اليقين، وعن الحفر عميقًا في تربة الشعر، حيث لا شيء ثابت، وحيث الكلمة دائمًا في طور التشكل.