وأخيراً تكلّـــم البقـــالي…

إبــــــراهيم بلهرادي _ مدير النشر
أخيراً تكلّم البقالي… هكذا بدأت موجة جديدة من الجدل حول ملف الصحافي حميد المهدوي، في لحظة لم يكن فيها الكلام مجرد رأي مهني عابر، بل أشبه باعتراف متأخر جاء بعد اشتعال النار. رئيس لجنة البطاقة المهنية بمجلس الصحافة اختار أن يُهاجم اللجنة المؤقتة، وأن يشكّك في خلفيات الشكايات المتواترة ضد المهدوي، وأن يبرّر رفض منحه البطاقة المهنية بدعوى أن دخله الرئيسي يأتي من “اليوتيوب”.
لكن، قبل أن نتوقف عند تصريحات البقالي، علينا أن نسأل: لماذا الآن؟ ولماذا صمت كل هذه المدة، بينما كان المهدوي، ومعه جزء كبير من الصحافة المستقلة، يعيشون أسوأ سنوات التضييق والمنع؟
لقد جاءت خرجة البقالي مباشرة بعد انتشار الفيديو المسرّب للجنة الأخلاقيات، ذلك الفيديو الذي عرى هشاشة المؤسسات المهنية وأعاد سؤال المشروعية إلى الواجهة. هنا بدا موقف البقالي أقرب إلى محاولة إعادة التموضع، منه إلى دفاع مبدئي عن قواعد المهنة.
ثم يظهر يونس مجاهد، ليعد “بنقاش هادئ ورزين” هذا المساء، وكأن نقاش مستقبل الصحافة لم يعد ضرورة ديمقراطية، بل مجرد رد فعل على فيديوهات مسرّبة تحرج بعض الأسماء، وتكشف عن صراعات قديمة داخل الهيئات نفسها.
ملف المهدوي ليس مشكلاً فردياً، ولا نزاعاً تقنياً حول بطاقة مهنية، بل هو عنوان أكبر لصراع طويل حول من يملك حق تعريف الصحافة ومن يملك سلطة التحكم فيها. ولعل أخطر ما تكشفه تصريحات البقالي، أنها تحمل في عمقها تصوراً تقليدياً لماهية الصحافة، وتجاهلاً تاماً لتحولات الإعلام الرقمي، الذي أصبح اليوم جزءاً أصيلاً من المشهد وليس مجرد هامش.
لوبي يكتب القوانين.. ووزارة صامتة
على خطٍ موازٍ لهذه التطورات، يجري تمرير مشروع قانون جديد للصحافة تحت ضغط لوبي قوي يتحكم منذ سنوات في مفاصل القطاع، ويوجه قراراته بما يخدم استمرار السيطرة على المشهد. في المقابل، يظهر الوزير الوصي على القطاع، محمد المهدي بنسعيد، في صورة المسؤول الضعيف أمام ضغوط داخلية أكبر منه، وكأن الوزارة فقدت دورها السياسي لصالح شبكات أقوى وأكثر حضوراً وتأثيراً.
إن ضعف شخصية الوزير لا يعني فقط غياب الموقف، بل يعني أن التعديلات والتحولات التي تمسّ مستقبل المهنة أصبحت تصاغ خارج وزارة الوصاية نفسها، في غرف مغلقة، وبين يد فاعلين لا يتحركون وفق تصور وطني، بل وفق موازين قوة ومصالح ضيقة.
اليوم، لم يعد سؤال “من يملك القرار؟” سؤالاً نظرياً، بل سؤالاً عملياً يطال كل صحافي يشعر أنه خارج مظلة الحماية المؤسساتية. فإذا كانت اللجان المهنية لا تتحرك إلا بعد أن تنتشر الفضائح، وإذا كانت البيانات الرسمية لا تظهر إلا بعد أن تهتز صورة المؤسسة، فإن معنى المؤسسة نفسه يصبح موضع تساؤل : هل أصبحت المؤسسات رهينة ردود الفعل؟
هل كنا سنقرأ تصريحات البقالي لو لم تنتشر مقاطع الفيديو؟ وهل كان سيخرج أصلاً بتبريرات تتحدث عن “الشكليات” و”تواتر الشكايات”، أم كانت الأمور ستبقى حبيسة سكون طويل؟
متى نتكلم قبل أن نحترق؟
الجرأة الحقيقية اليوم ليست في أن نُعلن المواقف بعد أن تضع الأحداث الجميع أمام الأمر الواقع، بل في القدرة على قول ما يجب قوله في الوقت الذي يجب قوله. وبهذا المعنى فإن كلام البقالي، مهما كان صائباً، يظل متأخراً، لأن الصمت الذي سبقه كان أطول وأثقل وأشد أثراً.
أكثر من ذلك، فإن مشكلة الصحافة اليوم ليست في أزمة ثقة عابرة، بل في محاولة إعادة تشكيلها على أساس غير ديمقراطي، يضع المستقبل المهني تحت وصاية لوبيات لا تظهر إلا حين تريد تمرير قانون جديد أو فرض قراءة معينة للمشهد.
وهنا يصبح السؤال أكثر وضوحاً:
هل نعيش إصلاحاً للمهنة… أم إعادة تصميمها؟
الجواب واضح لمن يتابع المشهد: ما يجري اليوم ليس إصلاحاً، بل إعادة ترتيب للمواقع، وتوزيع جديد لأوراق القوة، بينما تظل الصحافة التي يفترض أن تكون سلطة رابعة، عاجزة عن الدفاع عن نفسها، إلا حين تتسرب التسجيلات.
أما البقالي… فقد تكلّم. لكن الحقيقة أنه تكلّم بعد أن قيل الكثير، وبعد أن احترق المسرح.







