كتاب وآراء

“المنطقة الرمادية لا تفيد، والتاريخ لا يرحم  !” 

مدير النشر : إبراهيم بلهرادي

لم تكن الصحافة يوماً ترفاً في هذا الوطن، ولا كانت مجرد “حرفة ” نلجأ إليها لمحاربة البطالة سواء من كان متعلما أو لا . كانت دائماً سلطة رابعة، بل أكثر من ذلك: كانت ضمير البلد حين يصمت الجميع. لكنها اليوم تُجرّ إلى الحضيض، وكأن هناك من قرّر أن يجعلها “غير شاغلة، غير مقلقة، وغير مزعجة””.

قبل أيام، جمعتني دردشة مع صديق يشتغل في المهنة، قال لي بنبرة مغربي يعرف خبايا الدار: «راه باغيين يدفنو الصحافة باش يخدمو مرتاحين… بلا صداع راس». لم تكن الجملة مجرد انطباع، بل وصف دقيق لحالة الإحساس الجماعي بأن المهنة تتعرض لخنق ممنهج ، نعم .. بدون شفقة ..

منذ تشكيل الحكومة الحالية وبروز تحالف المال والسلطة، أصبح المشهد الإعلامي يتحرك بطريقة تثير الكثير من الأسئلة. منابر إعلامية تغيّر خطها التحريري بين ليلة وضحاها، أخرى انتقلت ملكيتها “بقدرة قادر”، دعم مالي يتجه دائماً نحو المنابر الموالية، وفضاءات رقمية تُستعمل في الهجوم على الصحافيين المستقلين بشكل يشبه الحملات الموجهة. كأن الصحافة تحولت إلى “آلة” في يد من يعتبرون الإعلام مجرد امتداد لخطابهم السياسي

وبعدها ، شهدنا جميعا  أحداثاً صادمة خلال “حوادث جل زد”، حيث تم اعتقال صحافيين وإهانتهم بطرق لا تليق بدولة تقول إنها اختارت نهج الحقوق والحريات. وزادت الأمور تعقيدا بعد ذلك ً مع تسريب مقاطع فيديو للجنة الاخلاقيات باللجنة المؤقتة خلال جلسة مرتبطة بقضية المهدوي، والتي هي محاولة جديدة لدفع الصحافيين المستقلين إلى اليأس… أو إلى الشارع.

قبل تفجر هذه الفضيحة ، تتحرك بعض الجهات لمحاولة تمرير قانون المجلس الوطني للصحافة “دون صداع”، بلا نقاش عمومي ولا استشارة المهنة، وكأن المطلوب هو إعادة تشكيل مؤسسة مهمة في الظلام، فقط لضمان أنها لن تُقلق أحداً في المستقبل. وهو ما يطرح سؤالاً بسيطاً بلُغتنا: «علاش كلشي القوانين كتنوض القيامة في البرلمان والراي العام ، إلا ملي كيكون الأمر مرتبط بحرية التعبير والراي ».

نحن اليوم عند مفترق طرق حقيقي. إما أن نختار المنطقة البيضاء، حيث الصحافة حرة وقوية وتقوم بدورها، أو نقفز إلى المنطقة السوداء حيث يصبح الإعلام مجرد “بوق رسمي”. أما المنطقة الرمادية التي نعيش فيها اليوم، فهي ليست سوى مقدمة للسقوط الكامل… لأن اللعب في الوسط لا يدوم طويلاً.

الصحافة في المغرب ليست في أزمة ظرفية، بل في معركة وجود. والتاريخ سيسجل ما إذا كنّا سندافع عن المهنة، أم سنتركها تُباع وتشترى في صمت. لأن الصحافة حين تموت… لا يموت الصحافيون وحدهم، بل يموت جزء من روح هذا البلد.

إننا أمام  فرصة تاريخية لا ينبغي التفريط فيها. فنحن الجيل الذي وُلد في قلب التحول الرقمي، ونمتلك أدوات لم تتوفر لمن قبلنا، ونعيش شغف المهنة رغم كل العثرات. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، بات من واجبنا أن نرفع الصوت، وأن نطالب بإعلام مهني حر ومسؤول، وأن نعيد بناء الثقة بين الصحافي والمجتمع. إنها لحظة للانتفاضة الإيجابية، انتفاضة تستعيد جوهر الصحافة كسلطة رابعة، وتعيد الاعتبار لقيمة الحقيقة، وتحمي كرامة المهنة بمن فيها. فالتغيير لن يأتي ما لم نصنعه نحن، ولن يتحقق ما لم نؤمن بأن المستقبل المهني والإعلامي للمغرب يبدأ من هنا… من جيل يرفض التطبيع مع الرداءة، ويؤمن بأن زمن الصحافة الجديدة قد آن أوانه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى