كتاب وآراء

الكوارث ليست محتوى ل ” الترند”

إبراهيم بلهرادي _ مدير النشر

في كل مرة تضرب فيها كارثة هذا البلد، لا تكون الطبيعة وحدها في الموعد، بل يحضر معها ـ وبالسرعة نفسها ـ نوع آخر من “الزحف”: زحف الكاميرات المحمولة، والمؤثرين العابرين للمدن، أولئك الذين لا يفصل بينهم وبين الألم سوى زر “بث مباشر”. حدث ذلك بعد زلزال الحوز، ويتكرر اليوم مع فاجعة آسفي، حيث تتحول المآسي إلى محطات في جولة محتوى لا تنتهي.

ما يقع في آسفي اليوم ليس مجرد صور لمنازل غمرتها المياه، ولا مشاهد حزن عابر، بل جرح جماعي لمدينة بكاملها. ومع ذلك، اختار بعض المؤثرين أن يتعاملوا مع الفاجعة باعتبارها فرصة جديدة لـ“التراند”، يتنقلون بين الأحياء المنكوبة، يرفعون الصوت، يطاردون الدموع، ويختزلون معاناة السكان في لقطات سريعة الاستهلاك، صالحة للمشاركة والنسيان في آن واحد.

الألم هنا لا يُنقل بقدر ما يُستثمر فيه. والكارثة لا تُقارب بحثاً عن الفهم أو الحل، بل تُؤطر درامياً بما يخدم الخوارزميات. الضحايا لا يُمنحون حق الكلام، بل يُستعمل حضورهم كخلفية مؤثرة لصناعة صورة “إنسانية” زائفة، لا تزيد الواقع إلا قسوة.

الأخطر من ذلك، أن عدوى هذا السلوك امتدت إلى بعض المنابر الإعلامية التي كان يفترض فيها أن تكون صمام أمان أخلاقي في لحظات الارتباك الجماعي. منابر اختارت الإثارة بدل التحقق، والسبق بدل الحكمة، فنقلت فاجعة آسفي بعين “البوز”، لا بعين الصحافة. فكانت النتيجة محتوى مرتبكاً، مشحوناً، يخلط بين الخبر والتأويل، وبين الواقع والانطباع.

وفي خضم هذا الارتباك، سقطت المدينة في ظلم إضافي. مواطنون خرجوا بدافع الاطمئنان أو المساعدة، جرى تصويرهم ـ عن سبق أو عن جهل ـ على أنهم لصوص. تعليقات متسرعة، وعناوين مستفزة، أسهمت في تشويه صورة آسفي وأهلها، في لحظة كانت تحتاج فيها المدينة إلى التعاطف لا الاتهام، وإلى التهدئة لا التحريض. هكذا يتحول الخطأ الفردي، إن وُجد، إلى إدانة جماعية، وتتحول مدينة منكوبة إلى مشهد فوضى في مخيلة المتلقي.

الصحافة، في زمن الكوارث، ليست بثاً مباشراً بلا ضوابط، ولا تعليقاً مرتجلاً فوق الأنقاض. إنها مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون مهنة؛ مساءلة للأسباب، وطرح للأسئلة الحقيقية، وكشف للاختلالات البنيوية التي تجعل الفاجعة ممكنة ومتكررة. أما التهييج، وتوزيع التهم، وصناعة الخوف، فلا تخدم إلا الرداءة.

أما المؤثر، فهو غير مطالب بأن يكون صحفياً، لكن مطالب ـ أخلاقياً وإنسانياً ـ بألا يكون تاجراً في المأساة. هناك فرق واضح بين نقل الواقع، واستغلاله؛ بين التعاطف الصادق، وصناعة محتوى على حساب كرامة الناس وأوجاعهم.

في آسفي، كما في الحوز، الكارثة أكبر من فيديو، وأعمق من “تراند”. وما يحتاجه سكان هذه المدينة اليوم ليس عدسات إضافية ولا عناوين مستفزة، بل إنصافاً حقيقياً، وحلولاً مستدامة، وإعلاماً يدرك أن الكلمة، في لحظات المحن، قد تكون جسراً للتضامن… أو طعنة إضافية في جسد مدينة مجروحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى