سياسة

من الدفاع إلى المبادرة.. مسار المغرب نحو سيادة فاعلة في الصحراء المغربية

الرؤية الملكية تشكل إطار استراتيجي أعاد توجيه مسار قضية الصحراء المغربية، محولة إياها من مرحلة الدفاع عن الشرعية التاريخية إلى دينامية سياسية ودبلوماسية وتنموية واضحة، فمنذ تولي الملك محمد السادس، العرش سنة 1999، وضعت القضية ضمن منظور شامل يجمع بين الثوابت الوطنية ومتطلبات الواقعية الدولية، ما ساهم في تحويل النزاع الإقليمي إلى نموذج لإدارة السيادة الوطنية والتنمية على المستوى الترابي.

منذ بداية العهد، اعتمد المغرب نهجا جديدا في معالجة ملف الصحراء يجمع بين الواقعية والموضوعية والإنصاف، كما ورد في خطاب المسيرة الخضراء لعام 1999. هذا التوجه مثل تحولا أساسيا في منطق التعامل مع النزاع، إذ انتقل من ردود الفعل إلى رؤية شاملة تستند إلى الشرعية الوطنية والتاريخية، وتقوم على دينامية تفاوضية واضحة.

وأكد المغرب في خطاب العيون 2002 على عدم التنازل عن أي جزء من ترابه الصحراوي، ما أسس لخط واضح في السياسة الوطنية بشأن الدفاع عن الوحدة الترابية، مع التأكيد على الطابع غير القابل للمساومة للسيادة الوطنية.

وفي السنوات اللاحقة، ركزت الخطابات على تعزيز الوحدة الداخلية ومصداقية الموقف الوطني باعتبارها رافعة لدعم الموقف الدولي، كما جاء في خطاب المسيرة الخضراء 2004 و2009، حيث شدد على ضرورة وضوح المواقف الوطنية ومسؤولية المواطن تجاه الدولة، وهو ما يعكس الربط بين التعبئة الداخلية والمصداقية الدبلوماسية على المستوى الدولي.

مع تصاعد الاعتراف الدولي، برز المغرب في توضيح الشرعية والواقع على الأرض، كما جاء في خطاب المسيرة الخضراء 2014، الذي اعتبر الصحراء قضية وجود وليست مجرد مسألة حدودية، وفي خطابات لاحقة جرى دمج البعد التنموي مع بعد السيادة الوطنية، وهو ما يعكس استراتيجية تعزيز المصداقية الدولية عبر مشاريع ملموسة في الأقاليم الجنوبية.

خلال الفترة 2019–2021، ركز المغرب على الحل السياسي الواقعي وربط التنمية بمصداقية الحل، مع التأكيد على مغربية الصحراء بالاستناد إلى التاريخ والشرعية المحلية والاعتراف الدولي، ما أظهر قدرة المغرب على تحويل القضية الوطنية إلى أداة دبلوماسية دولية مدعومة بإنجازات ميدانية واقتصادية.

وأظهرت الخطابات الأخيرة، بما في ذلك خطابي 2022 و2024، اعتماد المغرب على المنهج البراغماتي الواقعي في التعامل مع المجتمع الدولي، مع التركيز على الربط بين السيادة والتنمية والشرعية الدولية، وتوجيه رسالة واضحة للمنتظم الدولي حول موقف المملكة.

ويقوم الإطار المرجعي للرؤية على الانتقال من إثبات الحق إلى تجسيده ميدانيا، عبر مشاريع تنموية وبنية تحتية متطورة ومؤسسات جهوية فعالة، وتجسدت هذه الرؤية في مبادرة الحكم الذاتي لسنة 2007، التي صيغت كحل واقعي يتوافق مع القانون الدولي ويحظى بتقدير متزايد من قبل المجتمع الدولي، حتى أصبح المرجع الجاد داخل مجلس الأمن.

على مدى أكثر من ربع قرن، شكلت القرارات الملكية المحرك الفعلي للدينامية الدولية الداعمة لسيادة المغرب على صحرائه، بما في ذلك فتح أكثر من 30 قنصلية عامة في العيون والداخلة لدول عربية وأفريقية وأمريكية لاتينية، ودعم الموقف المغربي في قرارات مجلس الأمن، واعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب على الصحراء في 2020.

وتستند الرؤية الملكية على أربعة مرتكزات أساسية تشمل الشرعية التاريخية والمؤسساتية، حيث تعكس السيادة المغربية امتدادا طبيعيا للتاريخ والولاء القبلي وتحولت إلى شرعية ميدانية ودبلوماسية معترف بها دوليا، والواقعية السياسية والبراغماتية الدبلوماسية التي تتيح بناء شراكات دولية على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، والتنمية كأداة للسيادة من خلال ربطها بجودة الحياة في الأقاليم الجنوبية، وهو ما تحقق عبر النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية 2015 باستثمارات تجاوزت 77 مليار درهم، والبعد الإفريقي والانفتاح الأطلسي الذي جعل الصحراء معبرا استراتيجيا نحو القارة الإفريقية والمحيط الأطلسي، ما عزز الدور المغربي في الأمن الطاقي والغذائي.

وقدمت الرؤية الملكية مفهوما موسعا للسيادة الوطنية، لا يقتصر على البعد القانوني، بل يترجم إلى قدرة على الفعل والتنمية والتمثيل، مع ربط الدفاع عن الوحدة الترابية بالدفاع عن التنمية والعدالة الاجتماعية، وتعتمد الدبلوماسية المغربية على الحق المشروع والعقلانية السياسية، ما يجعلها أداة أخلاقية وسياسية تجمع بين الوضوح في الخطاب والاتساق في الممارسة.

وبذلك، شكلت الرؤية الملكية الإطار الأساسي للدينامية الجديدة لقضية الصحراء المغربية، محولة النزاع الإقليمي إلى مشروع للاستقرار والتنمية، مع تعزيز مكانة المغرب على المستويين الإقليمي والدولي، وتحويل القضية الوطنية إلى أداة للاعتراف الدولي والاستثمار والمبادرة الدبلوماسية، بما يعكس قدرة المملكة على إدارة السيادة الوطنية ضمن أطر استراتيجية وواقعية مستمرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى